تواجه ليبيا إنقسامات سياسية حادة منذ أن رفض مايعرف بالمؤتمر الوطني العام تسليم الحكم للبرلمان الذي إنتخب أعضائه كممثلين عن الشعب في أستفتاء عام في يونيو 2014. لن أتطرق لاسباب عدم التسليم هنا لانها تحتوي على تفاصل تخرجنا عن سياق هذا الملخص.
يرى البعض أن للإنقسامات السياسية أبعاد قبلية
وإقليمية، وأخرون على أنها
نتاج الفساد المالي والإداري، وخاصة هذا الأخير، الذي قضى على فاعلية العديد من
أجهزة الدولة، بما فيها القانونية والأمنية خلال حكم القذافي، ونتيجة لقرارت أصدرها شخصيا، أدت إلى إقصاء العديد من الكفاءات وأصحاب الخبرة في إدارة تلك الاجهزة، ليحل
محلهم أخرون لا خبرة لهم في تسيير أجهزة الدولة والمؤسسات والشركات العامة والخاصة، حيث قام بنزع هذه الأخيرة من أصحابها وتسلميها للعاملين فيها لإمتلاكها وإدارتها في نظام فوضوي فرضه
بالقوة عُرف بالتصعيد الشعبي.
ومع أن للفساد دور مهم في توطيد الإنقسامات السياسية الحالية، إلا أنه
ليس العامل الوحيد، فهناك أيضا إختلاف في التوجهات الفكرية بين الاطراف المتنازعة دعمتها
ثقافة إجتماعية يسودها إنعدام الثقة ومعادات المخالف للرأي. تُعزى هذه
الثقافة إلى الظروف الإستتنائية التي مر بها المجتمع الليبي خلال أربعة عقود من حكم
القذافي، والتي صادر فيها ممتلكات المواطنين من تابت ومنقول، فصار البيت لساكنه والأرض لمن يزرعها والسيارة لمن يقودها إلى أخ ..
لاشك أن ما زاد حدة الإنقسامات السياسية هو إنتشار السلاح في ظل إنعدام
الأجهزة الامنية، والتي إنحصر وجودها خلال حكم القذافي على حمايتة وتوطيد نظامه. فقد
عمدت المجموعات التي كانت تدعي الديمقراطية في اسلوبها إلى التحالف مع عناصر مسلحة
لحمايتها وبالتالي نشأت بينهما علاقات مبنية على مصالح مشتركة. زد على ذالك هناك
من المجموعات المسلحة من تمكن من فرض هيمنتهم على أجزاء من البلاد وبعض مؤسساتها وعلى
مصدر الدخل الاساسي وهو النفط، بحجة الحفاظ على أهداف ثورة فبراير وحماية مصالح الشعب. كما
منح إنتشار السلاح الفرصة، بدون رقيب أو حسيب، لمن أراد أن يثأر ممن أذوه خلال حكم
القذافي أو خلا فترة الثورة.
عملت ولازالت تعمل الإنقسامات السياسية على تعطيل وضع دستور للبلاد، وبناء
مؤسساتها ومنظمات المجتمع المدني، والتي كانت خلال فترة النظام السابق في معظمها إما
ممنوعة أو مهمشة أو تعمل بقصور أو محصورة في تقديم خدماتها للمسؤلين في النظام. والآن
هناك شلل شبه تام فيما بقي منها، كما في باقي أجهزة إدارة البلاد، بما فيها الحكومات
المحلية. كما أن هذه الإنقسامات تسببت في العديد من المواجهات المسلحة بين الأطراف
المتنازعة في مناطق متفرقة، وتبنيهم سياسية فرض الراي بالقوة.
مع إستمرار الخلافات وتفاقمها إنتهت البلاد إلى كيانين للتشريع وثلاث
حكومات، يسعى كل منها إلى إكتساب الشرعية في الحكم عن طريق إعترافات دولية بدون
الرجوع إلى الشعب لنيل الشرعية! ولذالك ليس من الصعب وضع إشارة إستفهام حول مدى
شرعيتهم. نتج عن فرض وجودهم بالقوة تقسيم أجهزة الدولة، أو ما تبقى منها،
حيث يتبع كل جزء منها إلى حكومة مختلفة، الأمر الذي زاد هذه الأجهزة عجز على عجز،
وأدى إلى شبه إنهيار تام في الجهاز المصرفي وتردي غير مسبوق في الإقتصاد المحلي وتدهور
في الاوضاع المعيشية للمواطنين.
لعل الأخطر كنتيجة لتواجد هذه الهياكل العقيمة والمتناحرة على
السلطة، هو بلورتها للرأي العام في البلاد، والذي لا شك له أثر سلبي بليغ على
الحياة الإجتماعية، حيث إنقسم المجتمع الليبي في فترة ما بين مؤيد ومعارض لكيانات مختلفة، حتى وصل
الامر في بعض الأحيان أن العائلة الواحد إنقسمت بين مشجع ومعارض.
لاشك أن تقسيم الحكم بشقيه التشريعي والتنفيذي وبلورة الشارع أتبتت أن النزاعات
السياسية التي تشهدها البلاد ليست قبلية بالعمق الذي يحاول البعض الترويج له.
كما أدى تعدد الكيانات المدعية للشرعية إلى حجب الدعم الدولي المشروع
والمهم جداً في هذه الظروف الحرجة، ومنح الفرصة لبعض الدول في التدخل الغير مشروع
في شؤون البلاد. ومن الواضح الآن أن جميع هذه الكيانات تتبنى سياسة ردود الافعال
في تصرفاتها وفي إصدار قرارتهم محاولة قرأة رأي مؤيديها والدول التي تدعمها، وعدم
إعتماد أيّ منها لمخطط واضح يمكن للشعب من خلاله معرفة الخطة المرسومة للخروج من
الازمة وإلى أين تسير الأمور، حتى وإن كان المخطط مبالغ فيه أو يعاني من قصور. فيكفي
أن تكون هناك خطة يمكن للشعب الإلتفاف حولها والبدء في رؤية نهاية للنفق المظلم
الذي دخلت فيه البلاد، ومن تم يمكن تعديل المخطط.
عوضا عن ذالك دخلت الاطراف المتنازعة في مفاوضات بإسم
"المصالحة الوطنية" فيما عرف بــ "حوار الصخيرات" في المغرب تحت إشراف دولي.
أتضح خلال المفاوضات أن السبب الرئيسي لدخولهم فيها هو محاولة كسب إعترافات والضغط
على الأخرين لإنتزاع مايرونه إنجازات لهم على صعيد تحقيق مصالحم، كأطراف متعادية لا
كممثلين لدولة واحدة! لم يصدر أي شيئ منهم بخصوص تنازلات لإنهاء النزاعات فيما بينهم وإحلال
السلام في البلاد. لعل أهم ما حققته هذه الإجتماعات التي كان أغلبها سري، ربما دليل
على عدم حسن النية، هو التأكيد على إنعدام الثقة فيما بينهم وحتى بداخلهم، حيث أدت المفاوضات
في بعض الأحيان إلى إنشطارات عنقودية بداخل بعض الجماعات المشاركة فيها.
في ظل إنعدام الأجهزة الأمنية وإنشار السلاح، ترعرعة الجريمة المنظمة وجرائم
الفرصة، وإنخرط فيها حتى من هم دون سن المراهقة، نتيجة البيئة والظروف السيئة التي
نشأوا فيها، خاصة بعد سقوط النظام السابق. وتتراوح الجرائم من سرقة السيارات إلى
السطو على المصارف وخطف الافراد لنيل الفدية، والتي وصلت لملايين الدينارات عن
الفرد الواحد. وقد تفحلت الجريمة لدرجة أن بدء المجرمون في التعاون مع عصابات من
دول أخرى، وخاصة المجاورة، لنهب وتهريب السلع المدعمة من قبل الدولة وسرقة كوابل
الكهرباء لبيعيها في اسواق الخردة. ولا شك أن هناك العديد من أوجه السرقات التي لم
يتم إدراكها أو الإفصاح عنها بعد.
لقد عانى ويعاني المواطن في العديد من المناطق تقطّع في إمدادات
الوقود والطاقة والمواد الغدائية والأدوية بالإضافة إلى تأخر أو إنعدام وصول
الرواتب وعجز المصارف عن تلبية رغبات من يريدون سحب رواتبهم لتسديد إحتياجاتهم
اليومية. لاشك أن كل هذه العوامل تعد سبب رائيسي في إرتفاع الاسعار وعجز المواطنين
في الحصول على متطلباتهم اليومية وخوفهم المستمر من مستقبل مظلم لهم ولأسرهم.
في ظل هذه الظروف الصعبة، أصبح المواطن يعيش في رعب بين إرهاب المجرمين
وتهديد الحرب الاهلية وقلة المال وغلاء الاسعار وإنقطاع الوقود والطاقة وإنعدام
العناية الصحية، ناهيك عن الفشل الدريع في التعليم على جميع المستويات. تعد كل
هذه المعطيات صدمات متلاحقة لاشك ان لاستمرارها تأثير سلبي بليغ وطوبل الامد على
نفسية المواطننين وخاصة الاطفال، ومدى مقدرتهم على العيش حياة طبيعية في المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق