الثلاثاء، 5 يونيو 2012

معاني الكلمات

ينشغل بعض العلماء والمهندسون في أقسام البحوث العلمية في شركات التقنية المتطورة بدراسة كيفية خلق محيط خيالي  (Virtual Surroundings)متكامل يمكّنهم من عزل الإنسان تماما عن محيطه الحقيقي. لتحقيق ذالك فإنهم يقومون بتطوير أجهزة تمكنهم من التحكم في جميع الحواس فتعزلهاا عن المحيط الحقيقي وتغذيها بإشارات توهم العقل بأن الإنسان يتفاعل مع محيط حقيقي هو في الواقع لا وجود له. تنفق تلك الشركات أموال طائلة لتطوير مثل تلك الأجهزة والبرامج الإلكترونية التي تدار عليها لذالك الغرض.

من الواضح أنه لا حصر للمجالات التي يمكن أن تستخدم فيها تلك التقنية. القاسم المشترك بين كل المجالات المحتملة هو الدقة الفائقة التي تتيحها لمصممي الواقع الخيالي في إيصال أفكارهم لمستخدمي تلك الأجهزة. الحقيقة أن الواقع الذي يعيشه الإنسان بتلك الأجهزة هو أمثل الطرق التي تجعله يصدق ما قد لايصدقه بإستخدام أي من حواسه كل على حدء في الواقع الحقيقي, ذالك لأن ربط جميع الحواس بحدث ما يضفي عليه واقعية لايمكن تكذيبها. ولكن حتى بغض النظر عن التحكم في جميع الحواس, فإذا ما نظرنا إلى ما هو أبسط من ذالك, كإضافة حاسة الشم إلى الحواس المستخدمة في تفاعل الناس مع المحيط الحقيقي, فسنجد أن هناك تحسن ملحوظ في تركيز الإنسان. ففي مجال السنما مثلا, يمكن للمرء الإنغماس في الأحداث التي يشاهدها على الشاشة إلى أبعد الحدود, لكنه يبقى مدرك لمحيطه المادي. بإضافة روائح للأشياء التي يشاهدها, يمكن جعله أكثر إنغماس في واقع الأحداث التي أمامه. فإذا ما عُرضت مشاهد بها أشياء لها روائح مميزة, كالعطور والأطعمة مثلا, حيث تخرج عندها تلك الروائح كمزيج من المركبات الكيماوية المعدة مسبقا لذالك الغرض, إذ يقوم الجهاز المعد لذالك الغرض بإطلاقها في الهواء من مسامات بالأرضية وبالسقف بكميات مناسبة وبالتوافق مع مشاهد معنية. بهذه الطريقة يتمكن المخرج السنمائي من نقل ما يدور بمخيلته إلى الأخرين بطريقة أشمل وأدق. الدقة في نقل المعلومات من عقل لأخر مهمة جدا لتوحيد المفاهيم وإزالة سوء الفعم بين الأطراف المتفاعلة, لأنها تضيف إلى لغة الكلام المسموعة ولغة الحركات الجسدية المرئية لغة أخرى وهي لغة الإشارات الكيماوية عن طريق حاسة الشم.

من المعروف أن اللغة هي خليط من الرموز التي نسميها كلمات والتي لها معاني متعارف عليها عند من يتحدثها ومبهمة لدى الأخرين. يمكن لتلك الرموز أن تكون في صغة مسموعة (منطوقة) أو في صغة مرئية (مكتوبة) أو حتى في صغة ملموسة، كما في بعض الكتب المعدة للمكفوفين . بالإضافة لتلك المعاني المتعارف عليها فإن لبعض الكلمات معاني خاصة بالأفراد تختلف بإختلاف الخبرات التي أكتسبوا من خلالها تلك الكلمات. فلا شك أن تلك الخبرات تضفي أبعاد خاصة على معاني الكلمات لايدركها الأخرون. نلاحظ مثلا أن بعض الناس يتأثر كثيراً لمجرد سماع كلمة ما بغض النظر عن مغزى الحديث الذي وردت فيه, وقد يكون رد فعل سامعها على عكس ما هو متوقع. ومع أن ردود الأفعال في المجتمعات الشرقية أكثر حدة منها في المجتمعات الغربية, إلا أن ذالك يعود إلى إختلاف الثقافة الإجتماعية ولا علاقة له بشدة تأثير الكلمات في النفس, حيث أن الغربيين أكثر حرص على عدم إظهار مشاعرهم للأخرين. ما أود الوصول إليه وما يهمنا هنا هو الإقتناع بأن هناك من الناس من يعتقد أن المعاني الخاصة التي يحملونها لبعض الكلمات هي معاني عامة متعارف عليها في المجتمع, لأن ذالك الإقتناع سيوصلنا إلى التعرف على أحد أهم أسباب المشاكل التي تعاني منها مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

عند إحتدام الصراع داخل مجتمع أو بين مجتمعات تتحدث نفس اللغة, كثيراً ما يعزى الأمر إلى أحد سببين – إما "سوء فهم" أو "سوء تفاهم". من الواضح أن السبب الأول هو سبب لغوي صرف, أما السبب الثاني "سوء التفاهم" هو "عدم التوصل لإتفاق" والذي قد لا تكن له علاقة بالفعم أوعدمه وأن أسبابه لاحصر لها. لكني هنا أود التكهن بأنه وحتى دون الرجوع لمعرفة تلك الأسباب التي لاحصر لها, فإن نصيب لابأس به "سوء التفاهم" نابع من "سوء الفهم" والذي أدى مع مرور الزمن إلى ترسيخ إختلافات بين الأفراد أو الطبقات بالمجتمع والتي يتضح أنها السبب وراء سوء التفاهم ويختفي سوء الفهم كسبب أولي لتلك الإختلافات.

من خلال نظرة عابرة للتفاعلات الإجتماعيى يتضح أن سوء الفهم لا يسبب مشاكل تذكر في المعاملات اليومية بين الناس, إذ قد لا يزيد تأثيره عن بعض المشادات الكلامية, والسبب هو أن جل هذه التفاعلات سطحية. ولكن إذا نظرنا إلى التفاعل بين المسؤلين في المحافل السياسية والثقافية حيث الحاجة للعمق اللغوي ضرورية وحيث تحمل المعاني ثقل المصالح الخاصة والعامة نجد أن سوء الفهم أحد أهم الأسباب وراء العديد من الإختلافات وإنحدار مستويات النقاش لدرجة النعت بالألقاب والذي يفيض على السطح عند الشعور بالفشل في إيصال المعاني للأطراف الأخرى, فيتحول النقاش إلى نزاع. لاشك أن أكثر المدركين لأبعاد ظاهرة سوء الفهم في أي مجتمع هم الصحفيون, إذ أنهم أكثر دراية من غيرهم بمدى تأثير بعض الكلمات على شرائح معينة من المجتمع نتيجة خبراتهم في تقصي ردود الأفعال. لذالك فمنهم من يستغل تلك الخبرات لخلق أحداث ما كان لها أن تكون أو لجعل الأخبار أكثر إثارة وأطول أمد على صفحات منشوراتهم. لكن ذالك موضوع أخر, إذ ليس الغرض هنا حصر أنواع المشاكل الناجمة عن الإختلاف بين المفاهيم العامة والخاصة للكلمات عند الناس, ولكنه محاولة إيضاح مدى تأثير هذه الضاهرة ونتائجها السلبية على المجتمع لمعالجتها أو على الأقل وضعها في إطارها الصحيح وعدم التقليل من أهميتها.

من الواضح أن شدة الفوارق بين المعاني العامة والمعاني الخاصة للكلمات بمجتمع ما تعكس مدى تطوره، فكلما كثرت الفوارق بين الإثنين كلما إزدادت حدة سوء التفاهم بين أفراد المجتمع أو  بين طبقاته، والعكس صحي, إذ أن مدى مقدرة أفراد المجتمع على فهم بعضهم البعض لغوياً يعكس مدى مقدرتهم على الوصل إلى تصور مشترك لتطلعاتهم, والذي ينعكس مباشرة على مستوى الثقة فيما بينهم. إن التطور اللغوي بالمجتمع يمكّن الأفراد من مناقشة القضايا الهامة بعمق لا يتسنى لذوي اللغة المحدودة الوصول إليه, والذي يتضح من خلال عجز المجتمعات المتردية اللغة على المناقشة الفعالة للتوصول إلى حلول جذرية للمشاكلهم الحيوية.

من المتوقع أنه كلما كثرت المفردات باللغة كلما إزدادت نسبة سوء الفهم بين المتحدثين بها. ولكن من خلال نظرة عابرة للواقع نجد أنه مع صحة ذالك التوقع إلا أن مدى المثابرة على إستخدام اللغة بدقة هو العامل الأساسي المرتبط بمدى إنتشار سوء الفهم. لتحقق من هذا الإدعاء يمكننا أخد أمثلة من الواقع المعاصر. من الواضح أن أفراد المجتمعات البدائية الشبه منعزلة عن مراكز الحضارات لاحاجة لهم بالتفاصيل اللغوية. فعلى سبيل المثال في صحراء الكلهاري بجنوب أفريقيا تعيش مجموعات صغيرة متفرقة يعتمد أفرادها إعتماد شبه كامل على الصيد البري. نتيجة جغرافيا المنطقة والنقص الحاد في الموارد الطبيعية فإن إحتكاك الأفراد بمحيطهم ومع بعضهم البعض محدود إلى أبعد الحدود, إذ ينحصر تعاونهم في كيفية محاصرة الصيد وهم في أعداد لا تزيد عن عدد أصابع اليد. ونتيجة خبراتهم المتكررة بالصيد يمكنهم التعاون دون الحاجة للكلام. لذالك فإن لغتهم تتمثل في بضع كلمات منطوقة, والتي هي عبارة عن أصوات يصدرونها دون الحاجة إلى حروف مركبة. بالمقارنة, إذا ما نظرنا إلى مدى التعقيد اللغوي وتعدد المرادفات المستخدمة لمحاولة إيضاح المعاني والفصح عن المضمون الذي تنطوي عليه العقود المبرمة في المجتمعات الحديثة, حيث تعريف المصطلحات فقط قد يحتاج إلى مجلدات, عندها تنعدم أوجه المقارنة بين اللغتين. ولكن إذا ما قارنا دقة ما تعنيه الكلمات (الأصوات) الصادرة عن الأفراد في المثال الأول بدقة معاني الكلمات في المجتمعات الحديثة نجد أن الكلمات التي يستخدمها سكان صحراء الكلهاري أكثر كفائة في الوصول إلى المضمون أي أنها أدق. لكنها لا تحتوي على أي عمق, إذ أنه من خلال كلمات بسيطة يتم الفهم والتفاهم. لكن تلك البساطة والإختصار هي نتاج تقلص تفاعل الأفراد فيما بينهم وفيما بينهم وبين محيطهم, ولذالك تفتقر تلك اللغة إلى العمق الذي يمكن الإنسان من التعبير عن أفكار معقدة لايمكن لها أن تخرج لحيز الوعي لولا التطور اللغوي الذي يمكن المفكر من ترتيبها بحيث يمكن فهمها ونقلها إلى الأخرين.

يتضح إذن أن كثرت المفردات باللغة ناجم عن مدى تفاعل الأفراد مع محيطهم وكثافة التعاملات فيما بينهم والذي يعتمد على تعدد الأنشطة القائمة بالمجتمع ومستوى تطورها. كما يتضح أيظاً أن تفادي سوء الفهم في مجتمع يتحدث لغة كثيرة المفردات ومتعددة المرادفات لابد أن يأتي نتاج لشرح المعاني وإيضاح المقاصد والإفصاح عن النوايا وإلا إتسعت الهوة بين المعاني العامة والمعاني الخاصة للكلمات. من خلال نظرتنا للواقع المعاصر في المثالين الذين تطرقنا إليهما يمكننا القول بأن التطور الإجتماعي في السياسة والإقتصاد وإستخدام الثقنية لابد وأن يسيروا جنبا إلى جنب مع التطور اللغوي حتى يكون هناك توافق في خروج المجتمع من مراحل بدائية إلى مراحل متحضرة. أي أنه من غير المنطقي توقع حدوث تقدم متعدد المجالات دون توفر الدقة في شرح المعاني والمقاصد وبالتالي فهم ما يدور بالمجتمع.

إذا نظرنا إلى مجتمعات الشرق الأوسط نجدها في وضع حرج لانها تتميز بأسوء الخواص التي تتميز بها المجتمعات البدائية والمجتمعات المتحضرة. فمن ناحية هناك التعقيد الإجتماعي الناجم عن وجود رؤس الأموال وبالتالي توفر التقنة. ولكن لأن توفر رؤوس الأموال والتقنية يقتصر على فئات محدودة من المجتمع, فإن تأثيرها سلبي أكثر منه إيجابي, إذا أنه يضفي نوع من عدم التوازن الإجتماعي. إذا ما أضفنا إلى ذالك إرتفاع الكثافة السكانية مع الفقر وقلة التعليم فسندرك مدى قوة الحلقة المفرغة التي على تلك المجتمعات كسرها. بالإضافة إلى ذالك فهناك تركة لها خصائص سلبية إكتُسبت عبر العصور فصارت عبئ ثقيل على المجتمع. تتمثل تلك التركة في العادات والتقاليد التي تتشبت بها بعض الفئات والتي صارت جزء من علم النفس الإجتماعي. لاشك أن التطرق إلى العوامل النفسية سيخرجنا من الموضع الذي نحن بصدده هنا, لذالك ربما نتطرق إلى تلك العوامل النفسية في مقال قادم إن شاء الله. السؤال هنا هو, كيف لمجتمع ما أن يضيّق الفوارق بين المعانى العامة والمعاني الخاصة بلغته ليقلل من سوء الفهم؟ الإجابة البسيطة والتي تلوح للوهلة الأولى هي أن الحكومات هي المسؤلة عن مجتمعاتها وبالتالي فإنها مسؤلة عن الثافة الإجتماعية عامة ونشر سبل الوعي والتعليم. لكن ذالك يفرض سؤال أخر ألا وهو ما سبب عجز الحكومات عن القيام بهذه المهام في مجتمعات كتلك التي بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

من الواضح أن الحكومات هي جزء من شعوبها, فإن فشل المجتمع فشلت الحكومة والعكس صحيح. إن النهضة الإجتماعية هي التي تخلق الحكومات الفعالة وليس العكس. لإيجاد حكومة فعالة تستطيع أن تنهض بمجتمع معقد التركيب يعاني من الأمية والفقر والمرض لابد أن تكون نسبة نجاحها ضئيلة لدرجة الإستحالة, حيث أن الأفراد بها لا يمكن أن يكونوا قد نشئوا بنفس المجتمع, إلا أن يكونوا من طبقة أكثر تمييزأ عن بقية المجتمع وبالتالي قد لا تكن لهم حاجة في النهوض به. إذن للإجابة على السؤال الأول لابد من معرفة السبب أو الأسباب التي تؤادي إلى ظهور الفوارق في اللغة. مع تعدد الأسباب التي تؤادي إلى الفقر وإنحدار مستوى التعليم, إلا أنه يمكن حصر تلك الأسباب في سبب واحد, ألا وهو عدم مقدرة ممثلي تلك المجتمعات على التفاهم للسير في طريق واحد يخرجهم من عدم الإستقرار الذي يعيشونه. نتيجة الإرتفاع المتواصل للكثافة السكانية وإختلاف المصالح الحيوية لطبقات صغيرة متعددة نشأة بطرق بدائية, ينتشر الشعور بالخوف من الآخر وعدم الثقة به. ففي هذه الظروف تضمحل فرص التفاهم الإجتماعي والإتفاق على روئية موحدة للمستقبل وينعكس هذا الواقع داخل الحكومات. فإذا ما نظرنا لأسباب التطور الحضاري نجد أن التفاهم وبالتالي الإستقرار هما أهم العوامل, إذ تعتمد الحضارات كعامل أساسي على الإستقرار بكل أوجهه - الإقتصادية والسياسية والإجتماعية, ولايمكن الوصول للإستقرار في أي من هذه الأوجه إلا من خلال الدقة في التخطيط والتنفيد, وعلى جميع المستويات. إذا نظرنا إلى مدى حرص المسؤلين, ولانقول عامة الناس, على الدقة في الأقوال والأفعال في مجتمعات الشرق الأوسط نلاحظ أنها شبه منعدمة. الحقيقة أن الدقة والتدقيق في الأمور بتلك المجتمعات, سواء في الأقوال أو الأفعال, يّنظر إليه بالسخرية والإزدراء, وكأنه مضيعة للوقت.

قد يقول قائل أن لا علاقة للغة بالتقدم الحضاري وأن اللغة تتبع مستوى الحضارة لا العكس. أي أنه إذا ما بدء المجتمع في التطور فاللغة في المجتمع تتبع ذالك التطور. لا شك أن ذالك صحيح لحد ما وفي المجتمعات الصغيرة نسبيا, لكن ذالك الحد لا يتضمن رقي مجتمع معقد دون وجود الدقة في التعامل والذي يحتاج إلى التطور اللغوي والذي يعتمد على مدى تعقيد التركيبة الإجتماعية وإنتعاش الإقتصاد بالمجتمع ككل. فمثلا في المجتمعات التي يكثر فيها تعداد السكان والفقر ليس من السهل إنتشال المجتمع من تلك الظروف وجعله مجتمع تتبع فيه اللغة مسار التقدم ويحافظ فيه الأفراد على الدقة في التعامل. وقد يقول قائل إن ذالك ليس من المستحيلات فالتطور الجاري في الصين والهند والبرازيل خير دليل على ذالك. ولكن ذالك غير صحيح لسببين. السبب الأول أن معظم الناس في هذه المجتمعات لازالت تحت وطئة الفقر والجهل والمرض وبالتالي لا يمكننا أن نسمي ذالك بالتطور الحضاري وإنما هو تطور إقتصادي لفئات معينة من تلك المجتمعات التي تمكنت من الحصول على بعض الأموال وربما عمدة في بناء الأبراج. وثانياً أن التطور الإقتصادي القائم في تلك المجتمعات مسموح به لشرائح معينة على حساب الأخرين, فهو مدعوم من الحكومات لطبقات معينة وليس نتاج تفاهم إجتماع وتطور لغوي ناجم عن مقدرة المجتمع التحدث بلغة يفهمها الجميع. لايمكننا التكهن بما سيؤل إليه حال تلك المجتمعات, فذالك يعتمد على الدور الذي ستلعبه شرائح المجتمع المختلفة. الجدير بالذكر هنا هو أن أول أعراض بداية النهاية للحضارات هو تقلص اللغة. هذا لا يعني أن تقلص اللغة هو السبب, ولكن ومع أنه يعد أحد الأعراض الواضحة, إلا أنه أيضاً من العوامل المساعدة على سرعة سقوط الحضارات. فقد يكن السبب الرئيسي لإنهيار حضارة ما إقتصادي أو سياسي أو نتيجة كوارث طبيعية، ولكن ما أن يبدء الناس بالنظر إلى مصالحهم الخاصة دون مراعات الأخرين نتيجة عدم الإستقرار، يتفشى بينهم الإقتناع أن لا طائل من إضاعة الوقت في إيضاح المعاني. بذالك يأخد الإنهيار في العجلة ليصير الناس عاجزين عن التعبير بوضوح ومن ثم تبدء الخلافات والإنقسامات وحتى الحروب.

حتى لا نحيد بعيداً عن الفرق بين المعاني العامة والخاصى للكلمات يمكننا الإستعانة بأمثلة من الواقع. ذكرنا في البداية أن وقع كلمة ما بالنفس يعتمد على خبرة أو خبرات مر بها الفرد  في حياته عند إكتسابه لتلك الكلمة. قد يكن تأثير تلك الكلمة سلبي أو إيجابي. فعلى سبيل المثال إحدى الكلمات التي لها معاني سلبية مقلقة لراحة بال الكثير من مواطني الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي في نفس الوقت لها معانى إجابية لدى القلة القليلة منهم هي كلمة "الحكومة". فلا أحد في تلك البقاع إلا ولهذه الكلمة أثر بالغ في نفسه, فقد تبعث الشعور بالقهر أو الخوف أو الحرمان وقد تعني السرقة والنهب أو التساط أو العمالة، إلى غير ذالك من المعاني السلبية, وهي معاني خاصة يحملها الأفراد ومتفاوته في شدتها من شخص لأخر. ولكن هناك من تعني لهم ذات الكلمة كل ما يرونه إيجابي من الغنى المادي والرخاء والسلطة والقوة إلى غير ذالك. هنا لابد من إدراك أن كل من المعنيين قاصر في إيصال المعنى الصحيح للكلمة ألا وهو أن الحكومة جهاز إداري لقضاء مصالح المواطنين مقابل الضرائب المدفوعة من قبلهم لسداد أجور العاملين بها وللإنفاق على الخدمات العامة بالدولة.

يتضح تأثير سوء إستخدام الكلمات على مدى تغيير المفاهيم الإجتماعية والسياسية لما تعنيه الكلمات المتداولة من خلال معرفة ما كانت تعنيه تلك الكلمات في الماضي. فمثلا إرتبطت الكلمات المشتقة من كلمة "حَكم", بمعنى أن يكون الفرد حَكم بين الناس, إرتبطت إرتباط وثيق بكلمة "التحكم" في الناس. فبدل من "الإحتكام" فيما بينهم صار "الحَكم" متحكم في أمورهم. من ذالك السياق بدأت العلاقة الشاذة بين الحَكم وأفراد الشعب. الجدير بالملاحظة أن كلمة "الحكومة" صارت تتستبدل بكلمة "الدولة" في المجتمعات التي تغيب فيها الحريات, وذالك نتيجة عدم وجود أي فوارق فعلية بين الإثنين. فأصبح الحاكم يمتلك الدولة بكيانتها ومواردها عن طريق الحكومة, وهو أمر مخيف إذ أنه يدل على إضفاء شرعية إمتلاك وإحتكار الحاكم للدولة كحق مشروع لا يحق لأحد مسائلته. وهذا ما نلاحظه فعلا في البلدان التي تنعدم فيها الحريات حيث أصحاب السلطة هم المسيطرون على ثروات بلدانهم. في تلك المجتمعات وكما كان حال في المجتمع الليبي ولمدة ليست بالقصيرة غُسلت فيها الأدمغة ونقشت عليها معانى جديدة لكلمات عديدة منها كلمة "الحكومة". فصارت تلك الكلمة في عقل المواطن تعني "الفساد" بجميع أنواعه. وبينما هناك بعض شرئح من المجتمع تسعى الآن لتغيير ذالك المعنى في عقول العامة, إلا أن هناك شرائح أخرى ترى ومن خلال خبراتها بالنظام السابق, أن من مصلحتها الحفاظ على ذالك المعنى وإضاعة الفرصة على الشعب لإستعادة حقوقه ووضع الأمور في نصابها.

في نهاية مقالنا هذا لا يسعنا إلا أن نأمل أن يكن المسؤلون على إدارة ما صار يعرف ببلدان الربيع العربي, أن يكونوا مسؤلون من قِبل الشعب لا أهل وصاية عليه. كما نأمل أن يكونوا في مستوى المسؤلية في هذه الظروف الحرجة التي تمر به تلك الدول فيدركوا مدى أهمية الشرح والتفصيل لما تعنيه المصطلحات المستخدمة في مخططاتهم لكي يتسنى لجميع أفراد المجتمع فهمها دون ملابسات أو سوء فهم. إذا كانت الشركات في الغرب, كما ذكرنا في البداية, تسعى للتأثير في جميع الحواس لشرح الأفكار ولإقناع الأخرين, أما آن الأوان لمجتمعات مانفكت ترزح تحت وطئة الفقر والأمية أن تبدء في إستخدام القلم كخطوة أولى في طريق شاق وطويل. وفي هذا الشأن لابد من وضع برامج مخصصة لتوعية المواطنيين والذي سيبعث فيهم الأمل وروح المسؤلية. ففي غياب فهم دقيق ومشترك لما تعنيه المصطلحات المستخدمة يجعل الحوار عقيم في أفضل الأحوال أو قد يحوله إلى حرب شرسة تكون الخسارة فيعا لجميع الأطراف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق