الثلاثاء، 3 يوليو 2012

المنظومات المعقدة وظاهرة الفوضى (1)

الأهداف
قد يبدوا عنوان هذا المقال غريبا لحد ما وذالك لأن إستخدام كلمة الفوضى في اللغة العربية لازال يقتصر على وصف بعض أنماط تصرفات البشر. لكن المقصود بالفوضى في هذا السياق هو وصف أي تفاعلات أو سلوك عشوائي لأي شيئ كان, بحيث يستحيل التكهن بما قد يؤل إليه الشيء أو بمدى تأثيره في ما يحيط به. كلمة الفوضى تعبر عن عدم مقدرة الإنسان على فهم ومتابعة ما يجري وبالتالي عدم مقدرته على التكاهن بنتائج ما يجري, وتعد ظاهرة الفوضى أحد أهم خواص ما يعرف بالمنظومات المعقدة(complex systems) .

تنقسم المنظومات إلى قسمين, يعرف أحدهما بالمنظومات المغلقة والأخر بالمنظومات المفتوحة. المنظومة المغلقة هي تلك التي لا يمكن للمادة أن تعبر حدود المنظومة. فالطاقة فقط هي التي تعبر الحدود. وبذالك يمكن التعرف على المنظومة المغلقة من خلال الإطار الذي يعزل محتوياتها عن المحيط. المنظومات المغلقة أجهزة غالبا ما يسهل على من يراقب عملها فهمها والتكهن بإنتاجها. من أمثلة المنظومات المغلقة منظومات التدفئة والتبريد حيث يتم تبادل الحرارة (الطاقة) بين المنظومة والمحيط في أمكان مختلفة في دورتها ومن خلال حدودها (جدران الأنابيب التي تحوي السوائل والغازات التي تجري بها). أما بالنسبة للمظومات المفتوحة فهي التي يمكن للطاقة والمادة أن تجتاز حدود المنظومة وبذالك يمكن لأي من أعضائها أن تتفاعل مباشرة مع المحيط أو أن لمكوناتها علاقات غير مباشرة مع بعضها البعض. غالباً ما تنتمي المنظومات المعقدة إلى هذا الصنف من المنظومات.

قبل التعمق فيما نحن بصدده هنا, ربما من المفيد تعريف المقصود بمعنى كلمة "منظومة" بصفة عامة و"المنظومة المعقدة" بصفة خاصة ليكون القارء على بينة من المقصود.


يمكننا تعريف المنظومة على أنها:

" مركب يتكون من أكثر من عضو واحد يتفاعلون فيما بينهم داخل إطار يميزهم ككيان موحد عن المحيط وذالك لإنتاج ما لايمكن لأي منهم إنتاجه منفرداً."

تعتبر منظومة ما معقدة لعدة أسباب أهمها:
1- تعدد الأعضاء فيها وإختلاف مدى مساهمت كل منهم لدرجة تعيق فهم كيفية عمل المنظومة.
2 - إذا ما كان تأثير المنظومة في محيطها لا يتناسب تناسب منتظم مع تغير مستوى مساهمة أي من أعضاءها.

في كلتا الحالتين, عند تغير مستوى مساهمة الأعضاء تنتهي المنظومة إلى حالة من الفوضى. إحدى أمثلة هذه المنظومات هي منظومة الطقس, إذا أن تغيير طفيف في أي من المؤثرات فيها, كتغيّر ضئيل في درجة حرارة التيارات المائية في إحدى المحيطات, قد يكون له تأثير لا يمكن التكهن بمداه لا من الناحية الكمّية ولا من ناحيتي إنتشاره جغرافيا وزمنيا. مثال أخر على تلك المنظومات هو منظومة الإقتصاد في الأسواق الحرة, ولا أقصد هنا أسواق المطارات والمواني الدولية, ولكن أسواق الدول التي يكون فيها تدخل الحكومات محدود لحد يجعلها عرضة للعديد من المؤثرات المحلية والدولية. في مثل تلك الأسواق يعد الإقتصاد منظومة معقدة لأنه لا يمكن التكهن بنتائج أي تغيير يطرء على مساهمة أي من أعضائها, كتغير في سعر الصرف أو في نسبة الأرباح أو تغيير سياسي بالدولة أو إختلال في مستويات العرض والطلب لبعض السلع الأساسية, إلخ. إذن قد يكن من السهل التكهن بإنتاج منظومة تعمل بإنتظام, أما وإن دبت الفوضي في سلوكها فقد يمستحيل التكهن بإنتاجها. أحد خواص المنظومات المعقدة هو شدة إحتمال تحولها من حالة من النظام يمكن للإنسان التكهن بإنتاجها إلى حالة من الفوضى التي لا تحكمها قوانين, أو قد تحكمها قوانين لا يمكن للإنسان فهمها. تنطبق هذه الخواص أيظا على سلوك البشر وعلى المجتمعات والجماعات البشرية في تفاعلاتها. ولا تقتصر خاصية التعقيد على فئة معينة من المنظومات المفتوحة بل تشمل نطاق واسع يغطي جميع فروع العلوم البحثة والتطبيقية وعلوم الإجتماع والرياضيات. ما يهمنا منها هنا هو ذالك الشطر الذي ينتمي إلى علم الإجتماع. فسنتطرق خلال هذا المقال إلى التركيبات الإجتماعية كمنظومات معقدة لمحاولة فهم مدى مقدرة الإنسان السيطرة على سلوكها. نظراً لإتساع رقعة الموضوع لن يكن بإمكاننا التطرق إلى كل جوانبه في هذا المقال لذالك سنتقصر في نقاشنا هذا على التعاطي مع أهداف المنظومات الإجتماعية وأهداف أعضائها.

من خلال تعريفنا لما تعنيه المنظومة نلاحظ أنه لابد وأن يكون لها إطار, إما فعلياً أو ضمنياً. من خلال الإطار يمكن تحديد أعضاء المنظومة والتعرف على تفاعلاتهم, إذ لايمكن القيام بذالك في غياب إطار يمييز أعضائها عما سواهم بالمحيط, فكل ما هو خارج الإطار يعد جزء من المحيط. مثلا,ً إذا كانت المنظومة إجتماعية كشركة ما, فإن كل من يعمل بها يعد من أعضائها ويكون إطارها ضمنيا, أي غير محدد كهيكل مادي, ويكون كل من أو ما لهو تأثر على تلك المنظومة جزء من محيطها. ليس من الظروري أن يكون أعضاء المنظومة الإجتماعية أفراد, فمن الممكن أن يكونوا مجموعات, بحيث تكون كل مجموعة عضو في المنظومة وبالتالي تعد تلك المجموعات منظومات فرعية (subsystems) كالأقسام في الشركات والمؤسسات. كذالك ومن خلال تعريفنا للمنظومة لابد وأن يكن بها أكثر من عضو واحد ليتم التفاعل فيما بينهم والذي يؤادي إلى تأثير المنظومة على المحيط وبالتالي إمكانية إدراكها كمنظومة, إذ لا يمكن لأي منظومة أن يكون أعضائها منعدمي التفاعل لأن ذالك يعني إنعدام فاعليتها وبالتالي إنعدام إدراكها كمظومة. بالإضافة إلى ذالك ولإتمام التفاعل بين أعضاء منظومة ما لابد من توفر الدوافع التي تُحفز الأعضاء على التفاعل. ففي المنظومات الآلية يكون الدافع هو محاولة الوصول إلى إنعدام الحركة والذي يتضح من خلال مقاومة أعضائها للحركة. ولكن لايمكنها الوصول إلي ذالك الثبات طالما إستمر إمداها بالطاقة. فمع الإمداد المستمر بالطاقة لا يمكن للآلة التوقف عن الحركة لأن المعادلة بين الإمداد بالطاقة وإستنزافها من قبل الأعضاء يمنع الآلة من التوقف عن الحركة. أما في المنظومات الإجتماعية, وبغض النظر عن حركتها الميكانيكية فإن الدوافع فيها تتعدد بتعدد الأعضاء أو أكثر, إذ من المرجح أن لك عظو فيها أكثر من دافع واحد.

ذكرنا أعلاه أن منظومة الإقتصاد في الدول الديمقراطية تعد منظومة معقدة والسبب هو أن قلة التحكم فيها من قبل الحكومة يجعلها عرضة للعديد من المؤاثرات مما يؤادي إلى زيادة إحتمال إختلال نظام عملها. إذن كلما تمكن الإنسان من عزل المنظومة عما يؤثر بها كلما إزدادت نسبة التحكم فيها وبالتالي التكهن بنتائجها. أي أنه كلما إزداد مستوى التحكم فيها كلما قلة نسبة تعقيدها, والعكس صحيح. لذالك فمن المتوقع أن تصعب السيطرة على المنظومات الإجتماعية, كالشركات الخاصة والعامة في البلدان التي تنتشر فيها الحريات, ولكن الواضح أن العكس هو الصحيح. وقد يبدء السبب واضح, إذ أن مراعات الأفراد في تلك المجتمعات للقوانين والأعراف التي تحتم عليهم عدم الإفراط في ممارسة حرياتهم لدرجة تخل بنظم عمل المنظومات هو السبب في نجاحها. لكن إذا ما تم التدقيق في الأمر يتضح أنه طالما توفرت الموارد الإقتصادية فإن هناك عوامل أخرى أكثر أهمية تكمن خلف ذالك النجاح وأن كل تلك العوامل تعتمد على مدى تناسق عمل أعضاء المنظومة فيما بينهم وفيما بينهم وبين ما يمليه أو يسمح به المحيط من إنتاج. يقودونا هذا الإستنتاج إلى أن دوافع وأهداف المنظومة وأعضائها ومدى التناسق فيما بينهم وفيما بينهم وبين محيطهم له الدور الأهم في سلوك المنظومات الإجتماعية. من الواضح إذن أن مرعات الأعضاء للقوانين التي تحكمهم لايمكن أن يؤِادي وحده إلى تنظيم عمل تلك المنظومات ومحافظتها على درجة عالية من الكفائة. للتأكيد على هذا يمكننا النظر إلى الدول التي تحكمها قوانين صارمة تحد من الحريات العامة وتنظم شؤون العمل. في مثل تلك الدول, مع إنخفاض نسبة التعقيد نتيجة سيطرة الحكومة شبه التامة على المؤثرات بالمنظومات الإجتماعية, نلاحظ وفي معظم الأحيان أنه لا يمكن وصف تلك المنظومات بأنها على أي مستوى من الكفائة, إذا أن جلها يتسم بالفشل أو قلت الكفائة في إنجاز المهام المنوطة بها, حتى أن المنظمات التجارية منها تمول من قبل الدخل العام للدولة لتغطية الخسائر, والأمثلة على ذالك لا حصر لها. بناء على ذالك الواقع لايمكننا أن نربط بين مدى نجاح المنظومات الإجتماعية وبين مستوى التحكم فيها.

إذن وكما ذكرنا أعلاه يتضح أن هناك رابط قوي بين أهداف المنظومات الإجتماعية من جهة وبين دوافع وأهداف أعضائها من جهة أخرى. هناك أيظا عامل إستقرار المحيط والذي له الدور الأهم في مدى إستقرار عمل أي منظومة. ولكن كما أشرنا سابقاً سنعود لنناقش أهمية ذالك العامل وغيره في مقالات أخرى إن شاء الله. لنبداء أولا بالتمعن في أهداف المنظومات الإجتماعية. من الواضح أن أهداف تلك المنظومات توضع من قبل أعضائها, كما أن أهداف المعلنة ليست بالضرورة هي الأهداف الحقيقية, إذ كثيرا ما نلاحظ إختلاف في تعريف أهداف منظومة ما من قبل أعضاء مختلفين. الحقيقة أن الكثير من الأهداف المعلنة للمنظومات الإجتماعية تعكس الأهداف التي يود الأعضاء أن يلبسوها للمنظومة لسبب ما أو لأخر والذي من المرجح أن يكون إعتقاد تلائم أهداف المنظومة مع أهدافهم الشخصية التي يطمحون إليها من خلال عضويتهم.

بمأن أهداف المنظومة توضع من قبل أعضائها فمن الطبيعي أنه كلما كثر عدد الأعضاء, كلما إزداد إحتمال إختلاف أهدافهم وبالتالي إزدياد تضارب تلك الأهداف. تضارب الأهداف بالمنظومة الواحدة لابد وأن يكون له أثر سلبي على سلوكها والذي قد يتراوح بين الإخلال بمستوى كفائتها وبين إيقافها التام عن العمل. يعتمد مدى تأثير تضارب الأهداف على مدى أهمية الأعضاء التي تتضارب أهدافهم ومدى إستعدادهم للتنازل من أجل المحافظة على المنظومة ومستوى كفائة عملها. إذن كأية منظومة معقدة, لكل عضو فيها دور معين وأهداف معينة ليست من الظرورة أن تكون هي أهداف المنظومة ككل. فمثلا قد يكون أحد أهداف شركة ما السيطرة على سوق سلعة ما. لابد وأن ذالك الهدف وضع من قبل مجلس إدارة الشركة والذي يمثل عدد من أعضائها ولكل منهم أهدافه الخاصة. فذالك الهدف لا يمثل هدف لأي منهم ولا يمثل هدف لأي من أقسام الشركة, إذ أن لكل قسم أهدافه الخاصة. فمثلا قد يكن من أهداف قسم الموارد البشرية المحافظة على إستقرار اليد العاملة بالشركة أو جلب اليد العاملة الأقل تكلفة. هنا قد نلاحظ تضارب الأهداف بداخل القسم الواحد. فجلب اليد العاملة الأقل تكلفة قد يعني ترك الكثير منهم للعمل خلال فترة وجيزة, أي حال حصولهم على وظائف أخرى, وبالتالي لايمكن تحيق هدف المحافظة على إستقرار العمالة بالشركة. بالإظافة إلى ذالك فمن الطبيعي أن المحافظة على ذالك النمط الإداري في جلب اليد العاملة الأقل تكلفة سيوأدي إلى إنخفاض الإنتاج وبالتالي إحتمال إنخفاض نسبة الأرباح في الشركة ككل. إذن لابد لأهداف الأقسام أن تكون متناسقة مع أهداف الشركة ككل. ينطبق هذا على أهداف الأفراد بالنسبة لأقسامهم وبالنسبة للشركة. إذن لابد من إيجاد معادلة تمكن الأفراد من الوصول إلى أهدافهم وتمكنهم أيظاً من الإتفاق على أهداف أقسامهم وأهداف الشركة ككل ولايمكن التغاضي عن أي من هذه الأهداف. وتعد هذه القاعدة الأساسية لبناء أي منظومة إجتماعية يمكن لها أن تعمل بإنتظام.

من خلال هذا الحد البسيط الذي وصلنا إليه في إيضاح العلاقة بين عمل المنظومات البشرية وبين أهدافها وأهداف أعضائها يمكننا إستنتاج أن أحد أهم الخطوات الأولى في الطريق إلى تنظيم عمل المنظومات الإجتماعية هو تقسيمها إلى منظومات فرعية لا تتضارب فيها الأهداف كما لأعضائها أهدافهم الغير متضاربة أيضا ومن ثم يمكن البدء في العمل على تركيب المنظومة ككيان لا تستنفذ فيه الطاقة في محاولات حل النزاعات الداخلية بل العمل على الإنتاج بأعلى كفائة ممكنة. لذالك لابد من إدارة المنظومة بطريقة توفر لكل عضو فيها قضاء مصالحهم الخاصة وفي نفس الوقت الشروع في الوصول إلى إنجاز الأهداف المتفق عليها للمنظومة.

قد يسأل سائل مالغرض من دراسة المجتمعات والجماعات البشركمنظومات؟ أي لماذا بذل هذا المجهود في فهم المنظومات لدراسة التفاعلات الإجتماعية؟ في إجابة على سؤال مماثل قال أحد علماء الفيزياء الأمريكيين المعاصرين ’رتشرد فينمن‘ في شرحه لسبب ضرورة فهم قواعد الرياضيات, قال إن عملية طرح رقم ما من رقم أخر يمكن أن تتم بإستخدام البقول, كحبات الفاصوليا مثلا, لإجراء العملية الحسابية. إذ يمكننا عد مجمل الحبوب تم عد الحبوب المطلوب طرحها ثم عد ما تبقي من الحبوب. لكن تتضح المشكلة في هذه الطريقة عندما تكون الأعداد المستخدمة كبيرة وتصل إلى ألآلاف أو الملايين, عندها لن يكن هناك متسع من الوقت لإجراء العد. عليه يتحتم علينا إجاد قواعد وقوانين تمكننا من إيجاد النتائج دون الحاجة إلى عد الحبوب. من خلال ذالك الإحتياج توصل الإنسان للعديد من القواعد التي تمكنه من إختصار الطرق للوصول إلى نتائج. العجيب في الأمر أنه ليس من الضروري فهم كيفية عمل تلك القواعد والقوانين لإستخدامهما, إذ أنه يمكن إستخدامها والوصول إلى نتائج صحيحة دون الحاجة إلى الفهم الكامل لكيفية عملها. من البديهي أنه كلما إزداد عدد المعطيات بمسألة ما كلما إزدادة شدة تعقيدها وكلما إزداد إحتمال وجود أخطاء في الحلول المطروحة. عندما تكون المعطيات شبه لانهائية قد لاتوجد حلول مثالية, ولكن توجد شبه حلول أو حلول تقريبية لابد من تقييمها قبل الشروع في تنفيد أي منها. ينطبق ذالك على التفعلات الإجتماعية المعقدة كتلك التي بداخل الشركات الكبرى وفي وزارات الحكومة ومؤسساتها, حيث تتشابك المسؤليات وتتضارب المصالح والأهداف لأناس من خلفيات إجتماعية متنوعة وتطلعات مستقبلية مختلفة. لذالك وقبل الشروع في إيجاد الحلول من المهم جداً وضع هذه الكيانات في قوالب فكرية تمكن المعنيين بإدارتها من الإلمام بجميع جوانبها. إذن دراسة هذه الكيانات كمنظومات تسهل عملية فرز المعطيات في دراسة التفاعلات بين الأشياء المختلفة والمؤثرة في بعضها البعض. مع مقالات مقبلة إن شاء الله نناقش فيها أهمية الحوافز ودور المحيط في عمل المنظومات البشرية ستتضح أهمية المنظومات كنمط نمودجي في مجال الإدارة.

عبدالرؤوف طريش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق